الشاعر الليبي أحمد الحريري، صورة وصوت وحروف، شكّلت لغة لحبّ ليبيّ جميل. نقش بالكلمة كيان ليبيا، في زمن مضى وبقي. عاش في كل عصور الإحساس الوطني. تغنى بقلم، وهامَ بقلب جميل، في وطن كان يحلم فيه وبه. استلّ كلماته من كل قلب، تحسس الحب نحو معشوقة لا يراها، لكنه يقاسمها دفقة عطر، يفوح منها ومنه. أحمد الحريري الشاعر الليبي الذي كتب القصيدة الغنائية الليبية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، عندما كانت ليبيا وليدة الزمن، أخذ مساحة خاصة في الأغنية الليبية، بتوليد كلمات لها ألوانها وعطرها. الغناء في ليبيا وُلد مع الحياة، من أغاني العمل، إلى أغاني الحادي الذي يشارك جماله في رحلة طويلة عبر الصحراء. الشاعر الذي يغرد بكلماته الليبية، يخاطب من حوله، يأخذ منهم، ويقدم لهم التاريخ والمعاناة والحكمة، ويكتب خيوط الأنساب الممتدة في التاريخ. مرحلة الجهاد ضدّ الاستعمار الإيطالي كانت ملاحم بالدم والضمير، الذي عبّر عنه شعراء من وسط المعارك التي تواصلت عقدين كاملين.
الحريري من مواليد طرابلس سنة 1943 بالمدينة القديمة، بزنقة شايب العين، حيث يتجمع السكان من خليط جنسيات متعددة. شريحة كبيرة منهم ارتبطت بالبحر، ليس في مجال صيد الأسماك فقط، ولكن في منظومة سلوك وقيم اجتماعية، وفي مركزها الرقة والتسامح والترابط وإبداع جماليات الحياة. المدينة القديمة بطرابلس لوحة زيتية رسمتها ريشة صنعها المكان والتاريخ، بألوان أبدعها البحر الذي يحمل التجار والغزاة، وكلّ يحمل معه بضائع وأفكار ونمط حياة من أكل وملابس ولغات وفنّ. كانت أسرته تعمل بصيد السمك، يتوارثها اللاحق عن السابق، هكذا بقي البحر والمدينة القديمة أنفاساً خاصة، تنبع منهما أطياف حروفه في أغانيه التي تجاوزت الألف. كتب للحبّ أغاني مشحونة بحرارة العاطفة وقوة الشوق، ورسم بالكلمات لوحات العاطفة.
بدأ مطرباً، غنى لمؤلفين آخرين، مارس الكتابة في الصحافة في عدد من الصحف والمجلات، رافق المفكر، الصادق النيهوم، والأديب خليفة الفاخر، ومحمد وريت، في صحيفة «الحقيقة»، التي كانت منبر الجرأة السياسية والإبداع والنقد الأدبي والاجتماعي، بقيادة الأخوين محمد ورشاد الهوني، كذلك في مجلة «الإذاعة» وصحيفة «الفجر الجديد» و«الأسبوع الثقافي» وغيرها. قدّم للإذاعة أعمالاً كثيرة ومتنوعة، من المسلسلات إلى الاستعراضات والمونولوجات.
نشر عدداً من الدواوين الشعرية، بالعربية الفصحى والشعبية الليبية، أبرزها ديوان «لو تعرفي» و«خمسينية صائد الرياح» و«عزف منفرد على مقام العشاق»، ورواية «وجدت في عيونكم مدينتي». سبقه كثير من مؤلفي الأغنية، لكن النقلة النوعية التي حقّقها أحمد الحريري كانت في لغة الأغنية من حيث الكلمات، وكذلك في المضمون. في بعض الأغاني العاطفية التي سبقته، سادت آهات العشق الباكي والشاكي، الذي يصور لوعات العاشق كأنها سهام ونبال، تنطلق من غنج، وتمنّع المحبوبة على قلب الحبيب الملتاع، فتحرقه أو تمزقه. في مرحلة متأخرة، سيطرت الأغنية السياسية في أناشيد حماسية وطنية ثورية.
الحريري نقل أغنية الحب إلى أفق آخر، الكلمات قوس قزح من حروف معطرة، ترتفع طبقاتها أو تنخفض، لتكون شعاع العطر الوجداني الذي ينساب بين العشاق راسماً حالة من الفرح المزين بالحنين الجميل والشوق الحالم.
بنفس القاموس العاطفي والجمالي، غنّى أحمد الحريري للوطن، لم تكن الأغنية الوطنية في شعره تحمل كلمات؛ بالقواذف والنار والبارود، لكنها مشحونة بحب الأرض والناس، فليبيا المعشوقة التي لا يتوقف الحريري عن التغني بحبها، يغرف من الماضي مطلعاً للقصيدة، منتقلاً إلى أجواء تطوف بين مرابع الوطن. غنّى له عدد من المطربين الشباب، لكنه شكّل ثنائياً مع أحد أبرز المطربين الليبيين، سلام قدري، ابن مدينته طرابلس وصديق عمره. اشترك الاثنان في الحرف والصوت وحبّ الوطن والناس. الفنان الراحل سلام قدري كان شخصية في غاية الحساسية والأنفة، امتلك صوتاً بطبقة متوسطة وواسعة، استطاع أن ينقل كلمات الحريري إلى القلوب بإحساس يعبر مباشرة إلى أغلب المستويات العمرية بين الرجال والنساء في مختلف مناطق ليبيا، وشكّل كوكبة من المطربين الليبيين في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، صنعت دنيا الأغنية الليبية الجديدة.
أحمد الحريري أبدع كلمات، لها حواس، تتغنى بالعشق الهامس والصادح للمحبوب والوطن، بدفقات من الاندماج مع الناس والأرض، بنفس الروح التي يعانق عبرها ليبيا، الإنسان والكيان. يقول في أنشودة العشق لليبيا...
لو تؤمريني فوق نسمة نطير
ونجيب لك حزمة نجوم تنير - تضوّي طريق الحب للإنسانْ
يا ليبيا وتزرع ترابك خيرْ
لو تطلبي عربونْ - قفطان غرزاته هَدَبْ لَعيونْ
وزرايرهْ طقاتْ قلبْ حنونْ - ندفع عليه العمر ما هو كثيرْ
كان ما يسدْ نجيبكْ مليون - يا ليبيا على محبتي تعبيرْ
نأخدْ شفقْ الغروبْ - نفصله وندير منّه ثوبْ
كيف يشبحه التاريخ فيه يذوبْ - وين تلبسيه المجد منه يغيرْ
وبدمْ قلبي نخطْ لك مكتوبْ - يوصف محبهْ ما حملْها لغيرْ
هكذا تغنّى شاعر الأغنية العاطفية الليبية الحريري بعشقه المتدفق للوطن، في سيل العطر المكتوب بحروف القلب والضمير. وبذات المداد الروحي يخاطب حبيبته، المرأة التي تعلق بها مبكراً، وكتب لها كثيراً من أغانيه. هو ابن مدينة طرابلس التي لا يغيب عنها عبير «الفلّ» الذي يسمى في تونس «المشموم»، وهو عطر الود والحب الذي لا يغيب عن العيون والصدور والأنوف. يُذكره عرجون الفل بلقاء الحبيبة التي أهداها إياه في لقاء حميم...
عرجون فلْ منين فاحْ خذانِي
خطّر عليَّا حبنا الحقانِي
خطّر عليا زينكْ - والليل ساهرْ وسط نني عينكْ
خطّرْ عليا هلالْ فوق جبينكْ
ورموشْ قيَّلْ تحتهم وجدانِي
أظن أن هذه الأغنية من روائع ما أبدع الحريري، فقد صوّر حبيبته بألوان الحب الروحي. ذكّره «عرجون الفل» بلحظات اللقاء، التي تاه في جمال وجهها. عيونها السوداء كأن الليل ساهر فيها، وجفنها استدارة هلال، ثم يرتفع إلى قمة التصوير التي يلتقي فيها الجمال المادي والروحي...
رموش قيّل تحتهم وجداني
- هناك الظل الظليل الذي لا مثيل له حيث يقضي الوجدان قيلولته الصيفية تحت رموش الحبيب.
بالروح الشعرية السهلة الشفافة نفسها، يقول في أغنية أخرى...
تتفكري ماضي مشى يا ريدي - لحنْ الهوى غنّيه ليا وعيدي
يتنقل الشاعر أحمد الحريري بين المعشوقتين؛ ليبيا الحبيبة الأولى، ومحبوبته الرائعة الجمال، التي يقيّل وجدانه تحت رموشها، لكنه في الهيام الوطني يستدعي التاريخ ولوعة الغربة، ولا يملّ من العزف على أوتار حروفه المسكونة بعشق ليبيا. في أغنية «فتنا النخل والديس»، يستلّ بيتاً من الشعر الشعبي الليبي القديم، لمؤسس شعر الحكمة والحنين الدائم للوطن الشيخ قنانة الزيداني...
فتنا النخلْ والديسْ وتعدينا - لحقنا الندمْ يا ريتْنا وَلِينا
فتناهْ وطن الحنهْ - نحسابْ ينسانا ويجفلْ عنّا - لقيناه دايرْ في القلوبْ محنّه
تريت الوطنْ داير كبيدَهْ علينا
فتناه واشتقنا له - اشتقنا وشامْ النخلْ فوق رمالهْ - تريت الوطنْ بيغير عالرجالهْ - غيرة العاشق وين يقوى حنينه.
ويقفل أغنيته بإيقاع سريع، يسمى في ليبيا «البرول» يقول...
عزيز غالي يكبرْ في البالْ وفي الموالْ محبهْ ما يوزنها مالْ
- يكبر يا غريبْ، الوطنْ تريته فراقَهْ صعيبْ
- فارق لو فارقتْ حبيبْ وما تفارقْ وطنك محالْ
- يكبر ويعيش الحبْ اللي لليبيا مافيشْ
- محبهْ ما يرسمها خيالْ
رحل أحمد الحريري، وصوت قلمه الفنان سلام قدري، عن الدنيا في ذات الفترة، وكأنهما توأمان سياميان لا يفترقان، وفي ليبيا التي رشّا فوقها عطر العشق والحب والسلام، فيها عرس دم، بلا عرجون فلّ، ولا وجدان يقيّل تحت رموش المحبة.