غوغل إيرث يمتلك أقوى كاميرا تجسّس في العالم
في السنوات الأخيرة ظهر جانب خفي من عملاق التكنولوجيا، نادرا ما تحدث أحد عنه: غوغل المتعاقد مع الحكومة. اتضحت إمكانية استخدام المنصات والخدمات التي توفرها شركة غوغل لمراقبة حياة الأشخاص والاستيلاء على بياناتهم واستعمالها في مجالات واسعة، بما في ذلك الجيش ووكالات التجسّس، ووصل الأمر إلى حد التجسس على الدول. وكان مفتاح هذا التحول شركة صغيرة ناشئة أصبحت تعرف الآن باسم “غوغل إيرث”.
تسبب تحديث جديد لبرنامج غوغل إيرث، أطلق في شهر فبراير الجاري، في عرض لقطات لمواقع عسكرية تايوانية سرية، عن طريق “الخطأ”. وأشارت التقارير، حسبما ذكر موقع “زد نت”، إلى أن اللقطات التي أظهرت المواقع العسكرية عرضت بوضوح ما تحتويه من صواريخ باتريوت لم يتم وضع أي علامات تمويهية عليها كما هو متعارف عليه في التعامل مع مثل هذه المواقع حول العالم.
وتأتي خطورة “الخطأ” الذي نجم عن التحديث الجديد في أنه أتاح لجميع مستخدمي “غوغل إيرث” رؤية المواقع بدقة من حيث تخطيط القواعد العسكرية والبنايات وقاذفات الصواريخ، كما تم الكشف عن مكتب الأمن القومي في تايوان ومكتب المخابرات العسكرية في التحديث الجديد.
لكن، لا يبدو أن الكثير من المتابعين مقتنعين بفكرة أن الأمر تم عن طريق الخطأ، وحتى من اقتنع بذلك، فإنه لا يعارض فكرة أن “غوغل إيرث يمتلك أقوى كاميرا تجسّس في العالم، تنقل الأحداث مباشرة”.
ويقول ياشا ليفين، في صحيفة الغارديان، “اكتب عنوان منزلك في خانة البحث في غوغل إريث وستبدأ الصورة تتحرك أمامك وشيئا فشيئا ترى لقطة جوية واضحة لمنزلك. تكبّر الصورة وسترى رؤية الزهور في حديقتك، وسيارتك الواقفة بالممر المخصص لها، ويرى ذلك من التفاصيل حتى يخيّل إليك أنك تستطيع أن ترى نفسك جالسا على كمبيوترك”.
وغوغل إيرث برنامج حاسوبي في الأساس يعرض صورة ثلاثية الأبعاد للأرض عن طريق تجميع بيانات واردة من الأقمار الصناعية. ويدمج هذه الصور الجوية مع نظام المعلومات الجغرافية للخروج للمستخدم بعالم ثلاثي الأبعاد. ويتيح معاينة المدن والمناظر الطبيعية من زوايا مختلفة، كما يمكن للمستخدمين استكشاف العالم عن طريق إدخال العناوين والإحداثيات.
ويعد غوغل إيرث امتدادا لبرنامج غوغل خرائط الذي يستخدم تقنيات مشابهة لإظهار الحدود الإدارية والسياسية وتخطيط الطرق وغيرها من الخدمات، لكن دون إضافة تقنية الأبعاد الثلاثية التي يمتاز بها غوغل إيرث. وربما كانت تلك الخاصية سببا في أن بعض الدول اعتبرت غوغل إيرث تهديدا لأمنها القومي، مما أدى إلى حظر البرنامج في العديد من البلدان.
يقول ياشا ليفين “كنا نعلم أن لهذا التطور التكنولوجي ثمنا، تبيّن في ما بعد أنه عبارة عن بياناتنا وخصوصياتنا. لكننا لم نهتم. ثم اتضح أن الجيش ووكالات الاستخبارات هما من عملاء غوغل الرئيسيين”.
الكشف الخطأ عن مواقع عسكرية سرية لا يعدّ الأول من نوعه الذي يضع غوغل إيرث في مأزق مع الحكومات. كما أن مثل هذه الأخطاء لم تفرّق بين دول وأخرى، سواء كانت شرقية أو غربية. ولم تسلم حتى الولايات المتحدة.
وتقول وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنها تمتلك حوالي 5000 قاعدة من بينها نحو 600 قاعدة في خارج حدوها. وذكرت صحيفة ديلي ميل البريطانية أن جوش بيغلي، وهو فنان وباحث، قرر تحديد مواقع جميع القواعد العسكرية الأميركية المعروفة في جميع أنحاء العالم. وجمع صور الأقمار الصناعية لها باستخدام غوغل ومحرك البحث بينغ. وبالفعل نجح في تحديد إحداثيات 650 قاعدة عسكرية. ونشر صورا لـ644 منها.
وإن كان البرنامج كشف أسرار الدولة التي تعد منشأ شركة غوغل، فلا عجب من أن يكشف ما يخفيه الخصوم السياسيون للولايات المتحدة، وعلى رأسهم الصين. وفي عام 2006، كشف برنامج غوغل إيرث عن موقع في إحدى المناطق النائية في الصين، ظهر في البداية موقعا طبيعيا لكن تبيّن في ما بعد أنه من صنع الإنسان.
ويوجد هذا الموقع في منطقة هوانغيانغتان النائية، وهو نموذج مصغر لجزء من الأرض مكون من مرتفعات يعلوها الجليد، وتجري خلالها الجداول بين الوديان. ورجح البحث الذي سجله عضو ألماني في موقع مجتمع غوغل إيرث، أن الموقع قد يكون أنشئ لأغراض عسكرية، بحسب صحيفة “سيدني مورنينغ هيرالد”.
ووفقا للبيانات المقارنة التي جمعها أفراد مجتمع غوغل إيرث، فإن مساحة الموقع تبلغ 450 كيلومترا مربعا، وأنه من الأراضي التي تحتلها الصين، لكن الهند تطالب باستعادتها.
وتكهن العديد من خبراء غوغل إيرث بأن المنظر الطبيعي الذي يظهر فيه الموقع هو في الحقيقة اصطناعي، وربما يخفي نوعا من التكتيكات الدفاعية، نظرا إلى أن منطقة هوانغيانغتان لها روابط بالجيش الصيني، فضلا عن تقارير موثقة بوجود مدفعية بالقرب من الموقع.
تهديد الأمن القومي
صرحت العديد من الدول عن قلقها من التهديدات التي يشكلها البرنامج على معلوماتها السرية، وتأتي الهند كواحدة من أبرز الدول التي أعلنت ذلك.
وفي عام 2005 قال الرئيس الهندي آنذاك، أبوبكر زين العابدين عبدالكلام، إن “مناطق حساسة تم عرضها بوضوح عبر غوغل إيرث”، محذرا من أن الإرهابيين والعناصر التخريبية الأخرى سيستخدمون هذه الصور لصالح أنشطتهم الإجرامية.
وكان غوغل إيرث عرض صورا واضحة لمقر قيادة الجيش ومبنى البرلمان وغيرهما من المؤسسات الدفاعية، ويأتي ذلك بعد أن أعلنت دول أخرى عن قلقها بشأن المسألة ذاتها من بينها تايلاند وهولندا وكوريا الجنوبية.
وتطلّب الأمر الدخول في محادثات بين ممثلين عن شركة غوغل والحكومة الهندية ممثلة في وزارة العلم والتكنولوجيا، أسفرت عن موافقة غوغل على التمويه على صور المناطق التي تحددها الحكومة الهندية، بحيث لا تظهر تفاصيل تلك المواقع أو محتوياتها للمستخدمين.
ويرى الخبراء أن صور الأقمار الصناعية المعروضة على غوغل إيرث من المفترض ألا تسبب قلقا للبلدان المتقدمة لأن قوانينها تسمح بالحق في تداول المعلومات، غير أن قوانين ولوائح الأمن في الهند تتطلب الاحتفاظ بسرية إمكاناتها وقدراتها التشغيلية.
ويرى ناير مادهافان، الرئيس السابق لمنظمة البحوث الفضائية الهندية، أن المؤسسات الدفاعية لدى بلاده يجب أن تكون قلقة بشأن التطبيقات مثل غوغل إيرث، مؤكدا على أهمية الحوار مع الشركات المسؤولة عن مثل هذه التطبيقات بأن مصلحة المجتمع الدولي، خاصة في الظروف الأمنية التي يواجهها العالم، تتطلب عدم عرض تفاصيل أسرار المواقع الحساسة في مختلف الدول.
اتهامات موجهة لأميركا
تعرضت شركة غوغل في عام 2010 إلى اختراق لنظامها. ورجّحت الشركة أن من يقف وراءه مجموعة من الهاكرز الحكوميين الصينيين. وفي أعقاب ذلك أبرمت غوغل اتفاقا سرّيا مع وكالة الأمن القومي الأميركي يقضي بموافقة الشركة على تقديم معلومات عن مستخدمي شبكتها في مقابل الحصول على معلومات استخباراتية من وكالة الأمن القومي حول الهاكرز الأجانب.
ووصف المراسل العسكري لصحيفة الغادريان البريطانية شاين هاريس هذه العملية بأنها مقايضة، معلومات مقابل معلومات، وأن العملية كانت في نظر وكالة الأمن القومي، عبارة عن معلومات في مقابل الحماية. وفضلا عن ذلك فقد بدأت غوغل منذ ذلك الحين تتغلغل في نسيج المجتمع الأميركي. فمع زيادة حجمها لم تجد المؤسسات العلمية والمجتمعية والبيئية بدّا من التحول لاستخدام خدمات غوغل، فلم يعد الأمر مقتصرا على التعاون مع المؤسسات الأمنية والعسكرية فقط.
ولم تتوقف غوغل وبرنامجها عند حدود السيطرة على جميع البيانات على سطح الأرض بالتفصيل، بل إنها طورت أدوات داخل برنامج غوغل إيرث ليغوص في أعماق المحيطات وينطلق إلى آفاق الفضاء الخارجي الذي يشهد تنافسا بين القوى العظمى.
وكشفت شركة غوغل عام 2009 عن تحديث لغوغل إيرث جاء تحت اسم غوغل أوشن أو غوغل محيط، والذي يوسع حجم الخارطة التي يظهرها البرنامج لتشمل مساحات كبيرة من قاع المحيطات، يمكن للمستخدمين من خلاله الغوص تحت سطح الماء لاستكشاف تضاريس سطح البحر بتقنية الأبعاد الثلاثية.
وكان الناشط البيئي والسياسي الأميركي، آل غور، حاضرا في حفل إطلاق خدمة غوغل أوشن، ووصف الخدمة الجديدة في بيان قال فيه جور إن هذا التحديث سيجعل من غوغل إيرث “تجربة سحرية، إذ لن يمكنك فقط تكبير أي جزء من سطح كوكبنا الذي ترغب في دراسته بتفصيل أكثر، بل سيمكنك الآن الغوص في محيطات العالم التي تغطي ما يقرب من ثلاثة أرباع الكوكب واكتشاف عجائب جديدة”.
وطورت الشركة كذلك أداة غوغل سكاي، والتي تتيح للفلكيين والمهتمين بعلوم الفضاء معاينة النجوم والأجرام السماوية والمجرات بتوفير مشاهد كتلك التي يتم رصدها من سطح الأرض، ليصبح البرنامج بذلك بمثابة تلسكوب افتراضي في متناول المستخدم يتنقل به بين الفضاء الفسيح من فوق مقعده بالمنزل.
هكذا ومع مرور الوقت أصبح برنامج غوغل إيرث نقطة التقاء بين عالمي السياسة والتكنولوجيا. وكان هذا البرنامج حلقة الوصل بين أسرار السياسة وتحفظات السياسيين وحساباتهم الأمنية المعقدة، وبين جنون التكنولوجيا التي لا تتوقف عند حد معين في تقديم كل ما هو جديد ومثير كل يوم.