بديع الزمان إسماعيل الجزرى
هل يمكن القول بأن فكرة #الإنسان_الآلي بزغت منذ ما يقارب ألف سنة على يد عالم عربي، طور الصيغة المبدئية لفكرة الإنسان الآلي عندما صنع أول نسخة بدائية من الألعاب على شكل بشر وكانت ذاتية الحركة.
هذه الألعاب كانت مثلا فرقة موسيقية تطفو على سطح الماء مؤلفة من شخصيات عدة كل واحدة منها تصدر صوت آلة موسيقية معينة، وكان الهدف منها تسلية ضيوف البلاط الملكي في منطقة ديار بكر التي تتبع لحكم الدولة الأيوبية.
تأثر به دافينشي
يعتبر #الجزري واحدا من عمالقة الإبداع الهندسي الميكانيكي في العصور القديمة الذين هيأوا لظهور الميكانيكا الجديدة والرافعات والمولدات التي تعمل على نقل الحركة، وكان قد تأثر به العديد من علماء الغرب في فترة النهضة المبكرة ومن أبرزهم دافنشي.
وقد ساهمت مخترعاته بشكل عام في ظهور عصر الآلة والصناعة في أوروبا أو ما عرف بالثورة الصناعية.
اسمه #بديع_الزمان_أبو_العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، وقد ولد بجزيرة ابن عمر الواقعة في شمال سوريا على نهر دجلة سنة 1136م وتوفي سنة 1206م. رغم أن هذه المنطقة لا تطل على البحر، فإن تسمية الجزيرة أطلقت عليها لكثرة الأنهار حولها.
صناعة الحيل
بعد أن تلقى تعليمه الأولي بها، عمل كرئيس للمهندسين في ديار بكر جنوب شرق تركيا حاليا، حيث خدم حكام هذه الديار من بني أرتق لمدة خمس وعشرين سنة، ابتدأت في سنة 1174م، وصار مقربا من الحاكم بل رئيس مهندسي البلاط.
لأن تلك المناطق كانت زراعية فقد انشغل الجزري بتطوير آليات الزراعة وروافع المياه ومن هنا جاءت أفكاره المتعلقة بالميكانيكا، حيث صمم في البدايات آلات كثيرة جلها تعلق برفع الماء أو الساعات المائية ذات نظام التنبيه الذاتي وقام برسمها وتوضيحها وتطبيقها.
وبقيت رسوماته زاهية إلى اليوم تعبر عن عقل متفتق وكبير، وشرح ذلك بدقة في كتابه المسمى "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" الذي جاء مشوقا ومصحوبا بالرسومات الملونة.
وقد جمع الجزري بين معرفة الهندسة والفيزياء الميكانيكية والرياضيات، واتجه إلى المناحي التطبيقية أكثر من بقية العلماء فلم يكن يميل للتنظير كثيرا، وهذا انعكس في جل ما قدمه من الروافع ذاتية الحركة والساعات المائية بالإضافة إلى الآلات الهيدروليكية التي تقوم على الدفع بالسوائل.
الخادمة الآلية
عمل الجزري على اختراع عدد من الآلات ذات العلاقة بالمجال الصحي، حيث كان يهتم بموضوعات البيئة وضرورة الحفاظ عليها في سياق تكاملي مع وسائل الإنتاج التقليدية كالزراعة.
وهنا ابتكر آلية لتصريف المياه الناتجة عن المغاسل والحمامات كاختراعه حوضا لغسل اليدين وبجانبه آلة على شكل خادمة أنثى.
هنا نعود لفكرة الإنسان الآلي لنراها تبرز مجددا، فالحوض يكون مملوءا بالماء النظيف وعندما ينتهي المستخدم من غسل يديه يقوم بسحب عتلة بجانب الحوض فيندفع الماء المستخدم إلى خارج الحوض عن طريق قناة تفريغ، بينما تقوم الخادمة الآلية بملء الحوض بماء نظيف مجددا، وهي الآلية المستخدمة في حماماتنا اليوم.
الطابع الإنساني للآلة
لعل من الأمور المثيرة للدهشة أنه حتى في الآلات كان يعطيها الطابع الإنساني في التصميم ما يكسبها بهاء وحلاوة.
وكان أيضا لا يصمم الآلات لأهداف المرح فحسب بل في المقام الأول للأغراض العملية وكيفية توظيف الموارد المتاحة أمام الإنسان بالشكل المثمر، وهي الملاحظة التي أشار إليها مؤلف كتاب "تاريخ تطور الإنسان الآلي" واسمه مارك إي رتشمان، الذي كان قد وصف الفرقة الموسيقية سابقة الذكر من تصميم الجزري.
قال عنها: "على عكس الإغريق، فإن الأمثلة العربية للإنسان الآلي لا تعكس تطورا مفصليا في التصميم فحسب، بل تعكس توجها لاستخدام الموارد المتاحة لراحة الإنسان".
فالرجل كان إذن يجمع بين الهدف والغاية والمتعة والمرح في وعاء واحد، فالآلة يجب أن تخدم غرضا لكن يجب أن تكون أيضا جميلة وتسر الناظرين وتكون ابتكارية في شكلها كما فعل مثلا مع الساعة المسماة "ساعة الفيل" والتي اشتهر بها إلى العصور الحديثة لضخامتها ودقتها الرائعة وهي من أهم وأدهش ما قدم من اختراعات.
الميكانيكا.. نقل الحركة وتوفير الطاقة
هذا الفن كان يسمى عند العرب بـ "الحيل" وعرف عند اليونانيين باسم علم الميكانيكا وهو الشائع الآن، حيث يسعى الإنسان من خلال توظيف الأشياء وعلاقتها مع بعض في نقل الحركة وتوفير الطاقة والقيام بأعمال كثيرة في زمن أوجز وبجهد أقل.
وفن الحيل فيه الكثير من الذكاء الذي لا يتوفر لأي شخص كما فيه توظيف الخيال الواسع وهي أمور حبا الله بها الجزري ما مكنه من القيام بعدد كبير من الابتكارات الذكية، وهو يتبع منهجا يجمع بين العلم والعمل النافع كما يتضح من عنوان كتابه المشار إليه، فهو يرى أن علم الحيل يجب أن يخدم الناس وألا يصبح مجرد تسلية ومرح فحسب.
إذا أشرنا لبعض من تصميماته يمكن ذكر الآتي: اختراعه مضخة ذات أسطوانتين متقابلتين، وهي تقابل حاليا المضخات الماصة والكابسة، كذلك ابتكاره نواعير رفع الماء عن طريق الاستفادة من الطاقة المتوفرة في التيار الجاري في الأنهار، ثم ابتكاره الآلات ذاتية الحركة تعمل بالماء كالساعات المائية والآلات الهيدروليكية العديدة التي ابتكرها علماء المسلمين وطورها الجزري.
وتمتد هذه الاختراعات لتشمل ساعات تتحرك بفتائل القناديل وآلات قياس ونوافير وآلات موسيقية، كما صنع إبريقا جعل غطاءه على شكل طير يصفر عند استعماله لفترة قصيرة قبل أن ينزل الماء. وهو أول من وضع ساعة لها ذراعان يشيران إلى الوقت وأخذت عنها الساعة الحديثة ذات المؤشرات، وعدد في اختراعات الساعات وربطها بالأشكال الطريفة فبالإضافة لساعة الفيل هناك ساعة القرد وساعة الطبال وساعة الرامي البارع وغيرها.
تغيير في المفاهيم
لقد غيّر الجزري مفهوم الطاقة والنقل والحركة من حيث الاعتماد على الدواب في نقل الماء ورفعها مثلا إلى استخدام الآلة والتروس وهي نقلة ليست بالسهلة في تاريخ العلم ووصف الآلات الضاغطة والرافعة والناقلة والمحركة وخصائص كل منها.
ونجد أن التروس القطعية لم تعرف قبله ولم تظهر في الساعات إلا بعد قرنين منه فيما يعرف بساعة جيوفاني الفلكية في أوروبا.
مؤلفاته
بالنسبة لمؤلفاته فـأهمها كتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، وقد كلفه بتصنيفه الملك ناصر الدين محمود أحد سلاطين بني أرتق في ديار بكر، أيام الخليفة العباسي أبو العباس أحمد الناصر لدين الله سنة 1181م وقد أكمله الجزري قبيل وفاته تقريبا بحيث ألفه في ربع قرن تقريبا.
وهو عمل موسوعي غير مسبوق في التصاميم والوسائل الميكانيكية، إذ قام فيه بتصنيف الآلات في ست فئات حسب الاستخدام وطريقة الصنع، وكانت هذه أساسا للتصنيفات الأوروبية في عصر النهضة، وفيه دراسات حول الساعات، والفوارات المائية، والآلات الرافعة للماء والأثقال.