الرئيس البرازيلي الأسبق دا سيلفا مصارع الفساد

الجمعة 20 أبريل 2018 1:42 ص

الفقر والفساد وكرة القدم، مثلث البرازيل المزمن. قارة في قارة، الأرض والناس يتداخلون في رقصة السامبا الصاخبة، حيث الفرح المتحرك الذي يكتب بالأجساد ملحمة الشكوى من الحياة والإصرار على خوضها. أمة قوس قزح. تعدد ألوان قومها ومزاجهم ودرجاتهم الاجتماعية والاقتصادية، فقر يسحق، وثراء باذخ يستفز أحزمة الفقر التي تلتف حول المدن. وفد إليها المهاجرون من كل أصقاع الأرض بحثاً عن حياة رسمتها تضاريس الأحلام والآمال. لكن البرازيل تبقى صفحات رواية طويلة كأنَّ كاتبها فوق ترابها غارثيا ماركيز. يزدحم على صفحاتها جموع الراقصين والمرابين والمتسولين والباحثين عن المعادن الثمينة.
البرازيل لعبة كرة قدم لا تتوقف؛ لكن قوانينها يفرضها اللاعبون وليس الحكم الذي يركض خارج الملعب.
الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا، اقتحم الملعب حكماً يحمل على كتفيه ثقل الأرض والناس، جاهد بقوة لفرض قواعد اللعب، رفع الأوراق الصفراء والحمراء في وجه المخالفين؛ لكن الأثقال لم تسقط من على كتفيه. الفقر والفساد كرتان من الحديد الملتهب تتدحرجان على امتداد المستطيل البرازيلي الطويل. استعان بقوة المعاناة التي ولد من رحمها، وبقي يلاحقها وتلاحقه.
قابلته للمرة الأولى ببيته البسيط الصغير المتواضع بمدينة ساوباولو سنة 1999. رجل مكتنز الجسم يتحدث بهدوء، طاف حول البرازيل التي يحلم بها. تحدث عن الفقر والمعاناة، عن الفساد الذي دمّر البلاد ونخر جسدها. وصفته السحرية لدفع الوطن إلى مصاف العالم المتقدم هي الحرب على الفساد بسلاح القانون. تحدث مطولاً عن حركة «فلاحون من دون أرض» التي تعبّر عن الظلم الذي يرزح تحته ملايين القادرين على توليد قوة الحياة من رحم الأرض؛ لكن السلطة تغل أيديهم لمصالح أنانية. أطال تحليله لأوضاع أميركا اللاتينية وثرواتها المهدورة، وضرورة توسيع العلاقات بينها وبين أفريقيا وآسيا. تقدم لولا دا سيلفا لانتخابات الرئاسة أكثر من مرة؛ لكن الفوز لم يكن حليفه، ولم ييأس، وكان يكرر دائماً: «أنا وُلدت من رحم المعاناة والبؤس والفقر، تلك هي قوتي. السجن أعطاني قوة لا حدود لها، علمني كيف أهزم الهزيمة وأسحق الخوف».
مقابلتي الثانية له عندما فاز بالرئاسة وذهبت لتهنئته، كانت الحماسة والأمل والإصرار تتدفق من أعماقه. ذكرني بمقابلتنا السابقة في ساوباولو وكأنها كانت بالأمس. لقد دخل معترك السياسة بلا سلاح مالي أو آيديولوجي، المعاناة والحلم والجلد صنعت منه المصارع القادر على اقتحام ملعب العراك البرازيلي الواسع.
البرازيل قارة الماء والخصب والعقول التي تدافعت من شتى بقاع الدنيا، وسواعد العمل القادرة على جعل البلاد أيقونة اقتصادية عالمية متفوقة، تغوص في قاع الفقر والجريمة والفساد، رأى دا سيلفا أنه القادر على تحقيق تلك النقلة الأسطورية للبرازيل. كيف؟ دا سيلفا هو البرازيل في إنسان، خلق كي يموت فقراً وبؤساً ومعاناة، وولد في بيت لا شيء فيه سوى الحاجة والهوان والفقر المدقع. أسرة من ثمانية أفراد تعيش في غرفة سقفها الجوع وأرضها البؤس، وما بينهما دموع الضعف. قرية فارجيم كمبريدا بولاية برانبوكو، قطعة تغرق في مستنقع التعاسة والفقر، هجرها الجزء الأكبر من سكانها إلى المدن الكبيرة وخاصة الساحلية، بحثاً عن حلم بدنيا أخرى، يجدون فيها ما يمكنهم من أن يتواعدوا مع الحياة؛ لكنهم ينضمون بمجرد وصولهم إلى حزام الفقر الذي يلتف حول خاصرة تلك المدن الحلم. هاجر مع أسرته إلى مدينة ساو باولو الكبيرة، أو لنقل علبة الغنى والفقر والبذخ والجريمة والرقص وكرة القدم. عمل ماسحاً للأحذية وبائعاً للخضار.
الرحلة من قريته إلى مدينة ساوباولو كانت الصفحة الأولى في كتاب حياته الجديدة، حيث استغرقت أسبوعين كما جاء في مذكراته، كانت شاقة؛ بل مؤلمة. باشر حياته العملية في مدينته الجديدة بائعاً لليمون والفستق، والتحق في الوقت ذاته بالمدرسة الابتدائية، يصف تلك المرحلة بأنها طفولة دون طفولة، لا شيء جميل أو مفرح فيها. في الرابعة عشرة من عمره التحق بالعمل في أحد المصانع؛ حيث بترت خنصره اليسرى. بدأ يهتم بالشأن السياسي، وانشدَّ إلى تيار اليسار المناهض للرأسمالية والإمبريالية، وانضم إلى الحركة النقابية المعارضة للحكم العسكري ودخل السجن. ترشح أكثر من مرة عن حزب العمال لرئاسة الجمهورية ولكنه فشل.
الفساد، لعنة البرازيل المزمنة، السياسة هي البوابة الأكبر لذلك الوباء. لقد كرس دا سيلفا جهده لمقاتلة هذا الوباء الذي رأى فيه مقتل بلاده، وشارك بقوة في الحملة ضد الرئيس فيرناندو كولور ميلو الذي وجهت له تهمة الفساد، وأرغم على مغادرة كرسي الرئاسة سنة 1992. لقد صارع دا سيلفا هذا الوحش (الفساد) سنوات طويلة، وكان صراعه مع هذا الوحش الأسطوري أحد مكونات الرافعة التي أوصلته إلى كرسي الرئاسة فيما بعد. انتصر دا سيلفا على الإخفاق، وفاز بالرئاسة سنة 2002، وقاد البرازيل إلى حقبة من النهوض الشامل، نجح في ترسيخ سياسة التوازن بين علاقته مع حلفائه اليساريين في أميركا اللاتينية، شافيز في فنزويلا، وكاسترو في كوبا، ودانييل أورتيغا في نيكاراغوا، على وجه الخصوص، ومع الولايات المتحدة، وأقام علاقات متميزة مع كثير من الدول العربية، وناصر القضية الفلسطينية بقوة، وأصبحت البرازيل قوة فاعلة في «البريكس».
حقق نقلة اقتصادية كبيرة، فبعدما كانت البرازيل على شفا هاوية اقتصادية حققت فائضاً مالياً يزيد على 200 مليار دولار، وأخرج عشرين مليون مواطن من ربقة الفقر؛ بل إن التوقعات الدولية ذهبت إلى أن البرازيل سوف تتفوق على ألمانيا واليابان في العشرين سنة القادمة اقتصادياً. لقد نجح في تلك النقلة الأسطورية بحملته القانونية لمكافحة الفساد، واحتلت البرازيل مكانة دولية بارزة، وأصبح دا سيلفا نجماً سياسياً عالمياً، حتى قال عنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما: «لولا دا سيلفا أكثر مني شعبية؛ بل هو أكثر شعبية في كل الكرة الأرضية».
لقد تسلح دا سيلفا بالقانون، واعتبره سلاحه المقدس، وعندما طالب البعض بتعديل الدستور لمنحه فرصة رئاسية ثالثة، قال: «ليس أنا من يفعل ذلك، الدستور مقدس». وعندما غادر منصب الرئاسة مبتهجاً بما حققه، خلفته تلميذته ديلما روسيف مرشحة حزبه (العمال). هي أيضا تعهدت في حملتها الانتخابية بمحاربة الفساد، وواصلت رحلة النهوض الاقتصادي.
لكن اللاعب الأقوى في الملعب البرازيلي - الفساد - استولى على البطاقات الصفراء والحمراء، ولاحق دا سيلفا متهماً به بعد أن قاتله مناضلاً ورئيساً، ووقفت معه في القفص نفسه وبالتهمة نفسها رفيقته في المعركة على الفساد، وخليفته على كرسي الرئاسة السيدة ديلما روسيف. وقبل ذلك جمعهما مرض آخر، هو السرطان الذي نشب أظافره فيهما. التهمة ذاتها (الفساد) تنتظر الرئيس الحالي ميشيل تامر، سيستضيفه القفص بعد أن يفقد حصانة الرئاسة.
قرر الرئيس لولا دا سيلفا أن يتقدم لانتخابات الرئاسة المقبلة؛ لكن القضاء رفع في وجهه البطاقة الحمراء بتهمة أنه تلقى رشوة، شقة فاخرة. المفارقة تراجيدية، من انطلق من حفرة الفقر لقتال الفساد يحاكم بالفساد لحصوله على بيت فاخر. هل هزم الفساد عدوه الأكبر وأسقطه في شباكه؟ أم أنه يركض بقوة وسط الملعب؟
تلك هي البرازيل، الرواية التي لم يكتبها غابرييل غارثيا ماركيز؛ لكنها تكتب نفسها كل يوم، أما الرئيس دا سيلفا فقد كتب له الشاعر العربي علي بن الجهم منذ قرون خلت:
كم من عليل قد تخطاه الردى
فنجا ومات طبيبهُ والعُوَّدُ
قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري
حبسي وأي مهند لا يغمدُ
والحبسُ ما لم تغشه لدنية
شنعاء نعم المنزل المتوددُ.
من انتصر على من؟

التعليقات