نظرة جديدة للعالم
تصعد قوى جديدة بصيغة متسارعة في شكل تحالفات تحاول التغلب على هيمنة الدول الغربية التقليدية على قواعد توزيع القوة في العالم، كمقدمة أفضت لاحقا إلى اتفاق نفطي بين السعودية وروسيا، اللتين تقفان في الصفوف الأمامية للقوى الصاعدة على المسرح العالمي.
ويعكس هذا الاتفاق محاولات حثيثة للتقريب بين دول كانت تعدّ بين الخصوم في الماضي، لكنها اليوم تحاول التوفيق بين رؤاها المختلفة حيال النزاعات، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، سعيا لخلق واقع جديد.
ويعتمد هذا الواقع على تحرّر دول خليجية، كالسعودية والإمارات، من الصورة التقليدية كدول يقتصر دورها على تصدير النفط، والدخول في محاور استراتيجية أساسية تعتمد مشروعا سياسيا يهدف إلى المشاركة في رسم ملامح المنطقة.
وتعتمد هذه المحاور على بناء تغيير تدريجي في العلاقات التاريخية التي ربطتها بقوى عالمية تملك ناصية القرار الدولي، كالولايات المتحدة، عبر الانتقال من صيغة الحماية سعيا لتأمين منابع النفط، إلى استغلال هذه القوى الجديدة الثروة النفطية لتغيير المعادلات الإقليمية، وفي أحيان الدولية، بما يخدم مصالحها.
وبالتوازي، تسعى إيران، وهي دولة عضو في منظمة أوبك ويقوم اقتصادها في جزء كبير منه على تصدير النفط، إلى رفع سقف طموحها في المنطقة. ولكن على عكس القوى الخليجية الأخرى الصاعدة تستثمر إيران في النزعات الأيديولوجية والطائفية لتحقيق مكاسب استراتيجية على الأرض.
وسيؤدي التحالف الجديد بين السعودية وروسيا إلى إعلان وفاة أوبك عمليا كمتحكّم في سوق الطاقة العالمي، وقد يحوّلها إلى مركز أبحاث يهتم بتقديم الاستشارات والتوقعات حول أسعار النفط وطرق الحفاظ على توازن العرض والطلب في السوق. لكنه سيعيد إطلاق قوى جديدة ضمن موجة ثالثة بعد مدّ صعود النمور الآسيوية، وبريكس.
ويقول محللون إن الفرق بين صعود النمور الأربعة، هونغ كونغ وماليزيا وتايوان وسنغافورة، أو صعود قوى بريكس، البرازيل وجنوب أفريقيا والهند وروسيا والصين، هو أن القوى الشرق أوسطية انطلقت من فائض في الثروة النفطية، إلى ثقافة تحويل سلعة استراتيجية إلى دور استراتيجي.
وكانت الدول النفطية في السابق تعتمد على توفير هذه السلعة للسوق العالمي، وتترك الدور لدول أخرى أكبر كي تقوم به. لكن صعود جيل جديد من القيادات في الرياض وأبوظبي، بعقلية مغايرة خلق مساحة جديدة أمام حركة هذه الدول بشكل مستقل، وسمح بفرض رؤيتها في المنطقة، وهو ما ميزها عن مرحلة الصعود الآسيوي.
أما على المستوى العالمي، فتحاول روسيا إعادة تموضعها كدولة قادرة على ملء الفراغ الذي تسبب فيه انهيار الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 25 عاما. ويقول خبراء في العلاقات الدولية إن قدرات روسيا لا تسمح لها بعد بتكرار نفس الدور العالمي، لذلك فهي تحاول خلق شراكات مع قوى إقليمية تظهر قدرات طموحة من أجل تشكيل ضغط على بنية النظام العالمي التي تشكلت في القرن الماضي، ولم تكن روسيا جزءا منها.
ومن بين التجمعات الدولية التي تأمل روسيا في التأثير عليها مستقبلا في مجال النفط منظمة أوبك، وفي المجالات العسكرية حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وأهم كيان سياسي ترى فيه تهديدا لها وهو الاتحاد الأوروبي. لكن روسيا أيضا تفاضل بين علاقاتها المتنامية مع الكتلة العربية وإيران.
وتوضح الصورة النهائية للقوى الصاعدة في العالم تناقضا في الرؤى السياسية، لكنها تظهر للمرة الأولى قدرة براغماتية على تجاوز الأجندات السياسية أحيانا، خصوصا لو تعلق الأمر بالصفقات الاقتصادية أو التسليح. كما تعكس ظهور شكل جديد من مراكمة القوة يعتمد على الموارد المركزة ومرونة الحركة، بعيدا عن التمدد خارج قدرات الدولة، كما يبدو واضحا في ملمح إسقاط القوة الذي تمارسه دولة صاعدة مثل الإمارات.
ويظهر ذلك في سلوك روسيا والسعودية أيضا، اللتين باتتا تركزان على أزمة واحدة أو أزمتين تتخذان منهما قاعدة انطلاق لتوسيع نفوذهما تدريجيا في المنطقة، وبما يعزز الاستثمار بقيمة معنوية كبيرة، سواء في حال روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي، أو السعودية كمركز للإسلام السني.
وتحاول روسيا تحويل سوريا إلى قاعدة الانطلاق الخاصة بها في الشرق الأوسط، رغم الضغوط الغربية لحصر نفوذها داخل الحدود السورية، بينما تركز السعودية جهودها على اليمن الملامس لحدودها الجنوبية، لدحض خطر الحوثيين المدعومين من إيران.
وأثبتت هذه الطريقة فاعليتها لأسلوب عمل الدول التي تتولى الحكومات الإشراف على استراتيجيتها بشكل مباشر، على عكس إيران التي لا تزال تعتمد على كيانات ما تحت الدولة أو الميليشيات لفرض رؤيتها في دول كسوريا والعراق ولبنان واليمن.
ويقول مراقبون إن الاتفاق النفطي بين موسكو والرياض سيمثل بداية مرحلة جديدة من تاريخ سوق النفط، لكنه أيضا يعكس جانبا من تغيرات جيواستراتيجية تشهدها المنطقة بشكل متسارع، وفي معادلة توزيع القوى في العالم، وفي شكل الدور التاريخي للغرب في مناطق نفوذه التقليدية.