السلطان عثمان بن أرطغرل
كثيرون هم من استطاعوا أن يرقوا لسلم المجد في حياتهم، ولكن قليلا من بين هؤلاء من استطاع أن يورث هذا المجد لأبنائه، وأقل القليل من جعل هذا المجد ميراثا في ذريته على مدى قرون عدة، ومن بين هؤلاء عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية، فمن عثمان هذا؟
إنه عثمان بن سليمان شاه التركماني المعروف بعثمان الأول يرجع نسبه إلى التركمان النزالة الرحالة من طائفة التتار [1].
ولد يوم الخميس الرابع من شهر جمادى الأولى، الموافق التاسع من شهر مايو سنة ست وخمسين وستمائة هـ، وهو العام الذي سقطت فيه بغداد في أيدي التتار، وكأن الله سبحانه وتعالى قدر أن يولد في نفس اليوم الذي قُتل فيه آخر الخلفاء العباسيين من يعيد الخلافة شابة فتية بعد أن هرمت وضعفت، وكان ميلاده في بلدة "صوغود" Sogud، أو في "باسين" Pasin...
وكان سبب ظهور أسرته على الساحة وصعودهم للملك أن السلاجقة لما تركوا وطنهم من فتنة جنكيز خان ملك التتار، ومالوا إلى جانب بلاد الروم جاء معهم أرطغرل، وكان رجلا شجاعاً، وبصحبته نحو ثلاثمائة وأربعين رجلاً من بني جنسه، فعمل في خدمة السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي -سلطان بلاد قرمان- فأعجب به لشجاعته، وقربه إليه، ثم زاد في عطائه ومِنَحه بعد أن فتحت على يديه كثير من البلاد "[2].
وقيل: إن أرطغرل هذا كان راجعًا إلى بلاد العجم -أي فارس وما حولها- بعد موت أبيه غرقا عند اجتيازه أحد الأنهر فارا من أمام التتار فشاهد جيشين مشتبكين، فوقف على مرتفع من الأرض ليمتع نظره بهذا المنظر المألوف لدى الرحل من القبائل الحربية، ولما آنس الضعف من أحد الجيشين وتحقق انكساره وخذلانه دبت فيه النخوة الحربية، ونزل هو وفرسانه مسرعين لنجدة هذا الجيش المهزوم، وهاجم الجيش الآخر بقوة وشجاعة عظيمتين، حتى وقع الرعب في قلوب الذين كادوا يفوزون بالنصر، وأعمل فيهم السيف والرمح ضربا ووخزا، حتى هزمهم شر هزيمة..
وكان قائد هذا الجيش الذي قام بمساعدته هو الأمير علاء الدين كيقباد، وقد قام بمكافأته على هذا الفعل النبيل بإقطاعه عدة أقاليم ومدن، وصار بعد ذلك لا يعتمد في حروبه مع مجاوريه إلا عليه وعلى رجاله، وكان عقب كل انتصار يقطعه أراضي جديدة، ويمنحه أموالا جزيلة، ثم لقب قبيلته بمقدمة السلطان لوجودها دائما في مقدمة الجيوش.
وأمضى أرطغرل بعد ذلك باقي عمره في الجهاد والرباط؛ حتى سمي في المصادر التاريخية بـ"غازي الثغور" وبعد وفاته -سنة سبع وتسعين وستمائة تقريبا- كتب السلطان علاء الدين لابنه عثمان بالإمارة من بعده، وأرسل إليه خلعة وسيفا كعادته عند تثبيت الأمراء [3].
وكان عثمان خير خلف لأبيه، إذ قاد قبيلته وواصل بها غزواته حتى فتح الله له قلعة " قره " سنة 688 هجرية الموافقة سنة 1289 ميلادية، وبعدها منحه السلطان علاء الدين لقب بك، وأقطعه جميع الأراضي التي فتحها، وأجاز له ضرب العملة باسمه، وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة، وبذلك صار عثمان ملكا بالفعل لا ينقصه إلا اللقب.
وتابع فتوحاته، ففتح مدن "اينه كولي" و"يني شهر" و"كوبري حصار" و"بلجك" وغيرها.
ثم هيأت له المقادير أن يتسلطن على مملكة علاء الدين كلها، فقد حصل أن هاجم التتار في عام 1300 م تقريبا الموافق سنة 699 هـ مدينة قونية، وقتل أثناء تلك الهجمة علاء الدين وابنه غياث الدين، ولم يكن على الساحة من يخلفه غير عثمان لقدرته وكفاءته، فانفتح بذلك المجال أمامه، واستأثر بجميع الأراضي التي كان يستحوذ عليها علاء الدين من قبل، ولقب نفسه بادي شاه آل عثمان، وجعل مقر ملكه مدينة "يكى شهر" أي المدينة الجديدة، وأخذ في تحصينها وتحسينها.
وقيل: إنه لما مات السلطان علاء الدين السلجوقي في قونية، ولم يكن له ذرية، اجتمع الوزراء والأعيان وقرروا أنه لا يليق للسلطنة سوى عثمان الغازي، فعرضوا عليه هذا الأمر فأجاب طلبهم، وصار سلطاناً من هذا التاريخ، وجعل مقر سلطنته "يكي شهر".
وبعد جلوسه على تخت السلطنة أمر بصلاة الجمعة، وخطب باسمه فقيه من أهل العلم اسمه "طورسن"، ثم أتاه باقي الأمراء ودخلوا تحت حمايته.. فسعى لتوثيق علاقته بهم وأكرمهم، وزوج ولده أورخان من ابنة أحدهم، وهو أمير قلعة " يار حصار " المسماة "نيلوفر خان".
ثم واصل توسيع دائرة أملاكه، وحاول فتح قلعتي " ازميد " و " ازنيك " ولما لم يتمكن من فتحهما عاد إلى عاصمته.
ثم اشتغل فترة بتنظيم أمور بلاده, حتى إذا أمن اضطرابها تجهز مرة أخرى للقتال، وأرسل إلى جميع أمراء الروم غير المسلمين ببلاد آسيا الصغرى يخيرهم بين ثلاثة أمور، الإسلام أو الجزية أو الحرب، فأسلم بعضهم وانضم إليه، وقبل بعضهم بدفع الجزية له..
وحاول الباقون أن يستعينوا عليه بالتتار؛ ليفعلوا به ما فعلوه بعلاء الدين قبله، لكنه لم يعبأ بهم، بل هيأ لمحاربتهم جيشا جرارا تحت إمرة ابنه أورخان، فسار إليهم هذا الشبل، ومعه عدد ليس بقليل من أمراء الروم، ومن ضمنهم "كوسه ميخائيل" صديق عثمان الذي اختار الإسلام دينا..
واستطاع أورخان بمن معه أن يشتت شمل جموع التتار التي حشدت له، وقد شجعه هذا النصر السريع على المبادرة بفتح مدينة "بورصة" فقصدها سنة 717 هـ الموافقة سنة 1317م، وحاصرها نحو عشر سنوات حتى استسلمت له من غير ما حرب ولا قتال، وذلك بعد أن فتح كل ما حولها من القلاع والحصون، ولم يتعرض لأهلها بسوء.
ولما رأى حاكمها "افرينوس" حسن المعاملة ونبل الخلق من الفاتحين الجدد أعلن إسلامه، فمنحه عثمان لقب بك، وصار من مشاهير قواد دولته الفتية[4].
ثم واصل أورخان بأمر أبيه التوغل بجيوشه في ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية، وساعده على ذلك رغبته في الجهاد من جهة، ومن جهة أخرى أنه كان ملمّاً بالأوضاع العامة بها.
وكان توغله فيها من خلال البحرين: البحر الأسود وبحر مرمرة، ثم سعى إلى فصل أراضيها بعضها عن بعض، وقطع الصلة بين مناطقها ليضعف من مقاومتها، ويسهل عليه افتتاحها.
وكانت سياسة عثمان في توغله داخل الدولة البيزنطية قائمة على: مواجهة كل إقليم على حدة، واتباع أسلوب الحصار طويل المدى، ثم إقامة الحاميات العسكرية في المناطق التي يتم فتحها ليضمن عدم تمردها عليه، ثم نشر الإسلام بين أفرادها، فضلا عن المعاملة الحسنة التي كان يعامل بها أهل كل منطقة بعد أن تسقط في يده..
وكانت فتوحاته السريعة غالبا ما تلجئ أعداءه إلى التحالف ضده، فبعد حصار قواته لمدينة "كبري حصار" واستسلام حاكمها له، ثم تضييقه الخناق على قلعة "أزنيق" اتفق حاكم "بروسه" مع حكام "أطره نوس أوادربانوس" و"كستل وكته" على مهاجمة مدينة "يكي شهر" عاصمة ملكه الجديدة؛ ليقضوا على دولته قضاء مبرما، ولكن يقظته جعلته يستعد لغزوهم قبل أن يغزوه، وخرج إليهم بنفسه على رأس جيشه، والتقى بهم عند قلعة " قيون حصار " ولم يكتف بهزيمتهم، وإنما تتبع أثرهم حتى التقى بهم ثانية عند مكان يسمى "ديمبوز" وأوقع بهم هزيمة نكراء قتل فيها أمير مدينة "كستل" بينما فر أمير "أطره نوس" وأمير "بروسه" لينجوا من قتل محقق.
وبعد هذا النصر المبين التفت عثمان إلى دولته، واستراح من الغزو قليلا، فشيد في سنة717 هـ بالقرب من مدينة بروسه قلعتين، جعل على إحداهما ابن أخيه آق تيمور أميرا، وعلى الأخرى أحد مماليكه.
وبعدها استخلف أورخان ليرعى أمور دولته، ثم سار هو بنفسه قاصدا قلعة لبلبنجي ولفكه جادرلق فاستولى عليها بلا حرب، وأخضع بعد ذلك من "يكيجه حصار" و"آق حصار" و"تكفور بكاري" بلا حرب أيضاً، وضم الجميع لأملاكه..
وعاد سريعا إلى عاصمته، وبعث ابنه أورخان وبعض قواده إلى قلعة "قره جيش" فحاصروها حتى استولوا عليها، وأسروا حاكمها، ثم تابعوا غزوهم ففتحوا الجهات المجاورة لها، واستولوا على مدينة طوز بازاري وقلعة "قره تكبه" كما فتحوا عدة جهات في أطراف أزميد، وختموا أعمالهم بفتح مدينة "أزنيق".
وبينما هم يواصلون فتوحاتهم وتقدمهم مرض عثمان، وجاء خبر مرضه إلى أورخان فعاد إليه مسرعًا، ولما صار بين يديه نصحه بالمحافظة على ملكه، والإحسان إلى الرعية، والحرص على العدل والإنصاف بينهم، ومن جملة ما جاء في وصيته قوله: "يا بني ! إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين، وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً، يا بني ! أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود، ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة، يا بني: إنك تعلم أن غايتنا هي أرضاء الله رب العالمين، وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضات الله جل جلاله، يا بني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل"[5].
ومات رحمه الله بعد حياة عامرة بالغزو والجهاد، حيث قضى في السلطنة ما بين 26 و27 سنة.
وانتقل بدولته من مجرد إمارة صغيرة إلى دولة قوية فتية، قدر لها بعد وفاته أن تصير حامية الإسلام، ومحط آمال الموحدين، ولذلك صار يعتز به كل سلاطين الدولة العثمانية، وآثروا أن ينسبوا إليه دولتهم.
كما ترك سيرة حسنة لكل حاكم يطمح للجمع بين حظ الدنيا وحظ الآخرة، فكان مثلا للعدل حتى قيل: إن أباه أرطغرل عهد إليه في حياته بولاية القضاء في مدينة "قره جه حصار" بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684هـ/1285م فاحتكم إليه رجلان، أحدهما مسلم تركي والآخر بيزنطي نصراني، فحكم للبيزنطي ضد التركي، فاستغرب البيزنطي وسأله: كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك، فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده، يقول لنا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء: 58] فتأثر البيزنطي من هذا الموقف وأعلن إسلامه.
كما كان محسنا للفقراء والمساكين، حتى قيل: إنه كان يجمع أنواع الطعام وأصناف الحلوى لهم، ويطبخ لهم بعد كل ثلاثة أيام سماطا عظيما يأكل منه الخاص والعام ممن ذكر وغيرهم[5].
وبلغ من حبه للإنفاق أنه ما ترك عند موته سوى فرس وسيف ودرع ونحو ذلك من اللباس والفراش [6] كما بقيت أوقافه من الخيل والغنم تتناسل قرونا طويلة، أبقتها ذريته تيمنا وتبركا.