ليبيريا من أوائل البلدان الأفريقية التي عرفتها مبكراً. في زيارة إلى عدد من دول غرب أفريقيا سنة 1974، طفت ببعضها بالسيارة، قابلت شرائحَ من الناس، ساسة ومثقفين ورجال دين. ليبيريا في تلك السنوات كانت هادئة وديعة، تحمل رغم فقرها ملامحَ من أميركا؛ طريقة حياة الناس ولباسهم، خصوصاً في العاصمة منروفيا. حادثة لا يمكن إلا أن أتذكرها؛ ذهبت رفقة زملائي من الصحافيين الليبيين لأداء صلاة الجمعة بأحد مساجد منروفيا. كانت المفاجأة، قال الإمام بعد الانتهاء من خطبته: «أيها الإخوة، نتشرّف بوجود إخوة عرب مسلمين بيننا اليوم، نرحّب بهم مع إخوتهم في هذه البلاد التي تعتز بالإسلام وتفرح بالعرب. وعملاً بالحديث النبوي الشريف (إذا قمتم للصلاة، فليؤمكم أقرؤكم للقرآن)، أدعو أحد الإخوة العرب أن يتقدم للصلاة بنا، فهم أفصح المسلمين». بعد الصلاة، توجه نحونا أحدهم، ودعانا إلى الغداء، دار حديث طويل عن قضايا كثيرة تهم العرب والمسلمين. كان الحضور اللبناني طاغياً في منروفيا؛ المطاعم والمتاجر والمصانع الصغيرة لبنانية الحضور والمذاق.
حملت ليبيريا في ذاكرتي وأنا أزور بلداناً أخرى في غرب أفريقيا. هي بلاد تعاني الفقر والمعاناة في البنية التحتية، لكنها مترعة بالأمن والأخوة والتسامح والطموح.
ليبيريا من محطات أفريقيا العجيبة، تاريخاً وتكويناً ومصيراً؛ هي أول دولة أفريقية حصلت على الاستقلال، لكنه استقلال من نوع فريد في التاريخ. في منتصف القرن التاسع عشر، قررت الولايات المتحدة إعادة الأميركيين الأفارقة إلى وطنهم الأصلي؛ وقع الاختيار على أرض في غرب أفريقيا، خلعوا عليها اسم «ليبيريا»؛ من كلمة الحرية باللغة الإنجليزية. نقلوا إليها أعداداً ممن كانوا يسمونهم بالعبيد، ونقلوا معهم التقاليد واللغة والسلوك الاجتماعي ونمط الحياة ونظام الحكم. قدّمت أميركا لهم الدعم المالي لبداية حياة جديدة. العاصمة أطلقوا عليها اسم منروفيا تيمناً باسم الرئيس الأميركي الخامس جيمس مونرو. هكذا، أصبحت تلك الأرض ولاية أميركية حديثة التأسيس على الشاطئ الغربي لأفريقيا. هل كانت هذه الدولة المستوردة من الجانب الآخر من المحيط أفريقية حقاً؟ الغالبية الساحقة من أهل البلاد الأصليين لم يشاركوا في الحكم، ولم يصل إلى أيديهم ما يأتي من مساعدات ودعم من مصدر الدولة إلى أرض أفريقيا. حينذاك، كانت القارة الأفريقية مقسمة بين دول الاستعمار الأوروبي الفرنسي والإنجليزي والبرتغالي والإسباني. لم يشكل القادمون من الولايات المتحدة أكثر من 5 في المائة من السكان، ولم تشهد البلاد تقدماً منظوراً في التعليم أو الاقتصاد والبنية التحتية. مجرد بقعة بشرية شكّلت نتوءاً اقتلعت من أميركا ليلقى بها على شاطئ أفريقيا الغربي. كان الهدف الأميركي البعيد هو ترحيل كل الأميركيين من أصول أفريقية إلى دار أجدادهم، وحل مشكلة التمييز العنصري في الولايات المتحدة بشكل جذري، وزرع مساحة للثقافة الأميركية في أرض جديدة بجنس قديم. تلك حلقة من حلقات ألعاب السياسة وصفحات الاجتهاد الباحث عن تصدير مشكلة، بدلاً من مواجهتها بحلول موضوعية جريئة. في هذا المجتمع المصطنع، كمنت المشكلة التراجيدية؛ عقود كثيرة عاشت البلاد تحت حكم نخبة مستوردة لم ينمُ بها نسيج اجتماعي، ونخبة ثقافية لها جذورها فوق أرض ليبيريا. قشرة أميركية سوداء فوق أرض لا علاقة لها بما في رؤوس القادمين الحاكمين من أرض بعيدة. قشرة حاكمة لم تطلق عليها صفة المستعمر، وإن كان لا يربطها بالسكان إلا لون البشرة. بعد انطلاق موجات الاستقلال في القارة الأفريقية، اقتربت ليبيريا القديمة الجديدة من الدول المجاورة، وتواصلت مع الكيانات القارية الجديدة، وخصوصاً منظمة الوحدة الأفريقية، لكن تاريخ التكوين ظل ساتراً بين الولاية الأميركية الأفريقية والدول حديثة الاستقلال. هناك من ينظر إلى ليبيريا على أنها شكل مبتدع من صور العنصرية، حتى بين أبناء البلاد الأصليين. بقيت البلاد عبر السنوات تحمل في داخلها ذاك الإحساس الذي يرسم الغربة في داخل النسيج الاجتماعي والتكوين الثقافي والسياسي.
التراجيديا الليبيرية حلقات تسبح في لجج التاريخ وصيروة التطور الصامت الغامض الذي ينفخ شدقيه، شهيقه الماضي المستورد وزفيره وعثاء رحلة الثقل المنبعث من معاناة الأرض وهوية الناس. رؤساء قادمون من أميركا يحكمون بلاداً لا تعرف أسماء آبائهم.
اليوم، يتقدم إلى حلبة بلاد العجائب التي ولدت غريبة بعيدة قريبة حاكم من عصارة ما كان، حاكم مؤهله قدماه التي ساقته إلى حلبات ملاعب أوروبا المنورة بشعلات الصارخين تشجيعاً لكرة القدم، من إيطاليا إلى فرنسا وغيرها. كانت الملايين من الدولارات ثمناً لقوة وعبقرية قدميه، يعود اليوم لاعباً دور الرئيس فوق ملعب سياسي فقير فيه ملايين الفقراء، لن ينظروا إلى قدميه بل يحلمون بما يحمل برأسه. جورج ويا إضافة إلى عجائب ليبيريا وغرائبها؛ ينتخبون أقدام لاعب. جورج ويا الذي تنقل بين الملاعب كما تنقل بين الأديان؛ آمن بالدين الإسلامي ثم عاد إلى المسيحي لحسابات كروية. هل هو القادم الآخر العجيب مثل من أرسلتهم أميركا يوماً لإعادة صناعة ليبيريا؟
ليبيريا، كيس دم التاريخ ولوحه المصطنع، تعيد عثرات مسيرتها في انفجارات القتل والصمت. غابت عن الانقلابات التي شهدتها القارة، لكنها عاشت مسلسل القتل البشع لعقود بعد ذلك. في أبريل (نيسان) عام 1980، انقلب الرقيب صامويل دو على الرئيس ويليام تولبرت، وهو من سلالة القادمين من أميركا، وقتل تولبرت ومعظم وزرائه وتابعيه. بعد ذلك، ظهرت جبهة مقاتلة يقودها تشالز تايلور، وهو الذي عاش في الولايات المتحدة، ووجهت له فيها تهم كثيرة. قتل صامويل دو بعد أن قطعت أطرافه.
سيطر تشالز تايلور على البلاد، بدعم من بوركينا فاسو وساحل العاج وليبيا، وانتخب سنة 1997 رئيساً للبلاد.
التقيته مرات ومرات. لا يحمل مشروعاً لبلاده، رجل ممتلئ بذاته. الخوف من كل شيء، رجل يسكن في الحكم والحكم يسكن فيه. القوة ثم القوة من أجل المال والسيطرة. تورط في ماس الدم الذي نسج خيوط تحالفه مع مجموعات متمردة في ساحل العاج، وقاده في النهاية إلى محكمة الجنايات الدولية بعد أن سلمته نيجيريا.
في 2005، انتخبت السيدة إلين جونسون سيرليف رئيسة للبلاد. هي الوافد الآخر من الولايات، درستْ بها وكبرت فيها، عادت بعبء ثقافي جديد، وأسست لمرحلة جديدة من الانتقال السلمي في بلاد الفقر والدم والغربة في الوطن. قابلتها مرات ومرات، الحلم والأمل والحزن منغمس في حدة الإصرار على بناء وطن. تركت السلطة وبلاد المطاط والفقر تتأوه، لكنها لم تعدل الدستور، ولم تقتل لتبقى فوق كرسي قشرة اللون المستورد.
جورج ويا... سؤال فوق ملعب من تراب الغربة وأرض المطاط وبلاد مستوردة من بعيد. هل يلعب بقدميه أم بحلم في رأس قديم جديد؟