عددت الأحداث التي تشير إلى أن محركات المتطرفين والإرهابيين، والدافعة للعنف والقتل، ليست أو ما عادت ردود فعل على ما يحدث على الأمة وقضاياها من الخارج أو الداخل. وهذا الوهم، أي اعتبار أعمال الانشقاقيين ردود فعلٍ على ما ينزل بديار العرب والمسلمين، قديمٌ نسْبياً. وكنتُ حتى حَدَث «القاعدة» عام 2001، من الذين ذهبوا لذلك في المقاربة العامة، وقد تناقشتُ في ذلك عام 2006 مع الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، الذي سمعني أتحدث في الأمر بعد الغزو الأميركي للعراق، فقد قال لي: هؤلاء عندهم نظرية في الخلافة العالمية أو العامة، ورغم هجومهم على أميركا، فنحن المستهدَفون عرباً ومسلمين في كل ما يفعلونه. إنّ هذا الأمر ينبغي أخذه بالاعتبار، أو نبقى دونما فهمٍ لهم قبل وقوع الكوارث وبعدها! وما رآه الأمير سعود الفيصل قبل أكثر من عقد ونصف، صار حقيقةً واقعةً لا يجادلُ فيها إلا متحيز للإرهابيين أو صاحب وهمٍ بالفعل.
لقد تجدد لديَّ هذا الاهتمام بالدوافع والممارسات بعد كارثة مسجد الروضة بسيناء، ثم بعد واقعة الرئيس الأميركي بالقدس. فالتنظيم الإرهابي، الذي صار ينتسب إلى «داعش»، اسمه في الأصل أكناف بيت المقدس أو ما شابه، وما عرفت عنه القدس غير الضرر المجرم، والقتل الذريع بالمسلمين المصلّين وقوات الأمن والجيش بمصر. وهذا انحرافٌ ديني وإنساني لا يكاد يستوعبه عقلٌ عاقلٌ. وقد قرأتُ لكاتبٍ أميركي في «نيويورك تايمز» تشبيهاً للقتلة هؤلاء بطائفة «بوكالبتية» بروتستانتية بالولايات المتحدة تزعمها معتوهٌ اسمه ديفيد كورش، والذي طلب من أتباعه قتل أنفسهم كجزءٍ من انتظارات القيامة الداهمة، وقد نفّذ ذلك عشراتٌ منهم أو أُرغموا على الفعل المُشين، لأنه كان بينهم أطفالٌ لا يستطيعون الوصول إلى قرارٍ مُشابه استناداً إلى تلك النبوءة المسيلمية!
ويعرف رجالاتُ الاستخبارات منذ سنوات أنّ ملاحم القتل والتمثيل لا يصنعُها الانحراف العقدي والإنساني بمقتضى «إدارة التوحش» فقط؛ بل ويصنعُها الاستخبار والارتزاق الذي تمارسه العصاباتُ الإجراميةُ لحساب جهاتٍ تريد زعزعة الأمن بمصر في حالة سيناء، أو لحساب المتطرفين الصهاينة، الذين يريدون تكريه المسلمين بدينهم ومقدساتهم؛ في حالة القدس والأقصى وفلسطين.
وعندما نعتبر أفكار هؤلاء وأعمالهم انشقاقاً في الدين، فلأنهم يحرّفون المفاهيم الإسلامية، فيعتبرون شرعية المجتمع والدولة في عالَم الإسلام تابعةً لأمرين اثنين مترابطَين: تطبيق الشريعة، وإقامة الدولة أو النظام الذي يطبّقها. فيصبح ذلك النظام مقدَّساً استناداً للمهمة المقدسة التي يقومُ بها. ولأنّ الدين والشريعة مترادفان؛ فإنهم بذلك يحوِّلون الدين إلى تنظيمٍ مسلَّح مهمته إخضاع المسلمين (الضالّين أو الغافلين) أولاً، بزعم إخضاعهم لشرائع الإسلام التي خرجوا عليها. وبذلك فإنهم يُخرجون الدولة عن مهامّها المعروفة في إدارة الشأن العام على قدم المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، إلى تنظيمٍ لا يشبهُ ما عرفه المسلمون في تاريخهم وحاضرهم، ولا عرفهُ العالَم الأوسع.
ولكي يكون واضحاً ما أقصدُهُ من مفارقة هؤلاء في ظلّ هذا الوعي لقضايا الأمة وهمومها، يمكن ليس تتبُّع أعمال الإرهابيين في العراق وسوريا واليمن وليبيا ونيجيريا والصومال ودول الساحل وحسْب؛ بل وأعمال ما سموه الهيئات الشرعية في المناطق التي سيطروا عليها. فقد انهمكت تلك الهيئات في قمع المواطنين وتتبعهم في حياتهم اليومية، ثم كثرت فتاوى التكفير وإحلال الدم بين فصائلهم المختلفة، بحجة أنّ هذا الفصيل أو ذاك هو الأكثر إنفاذاً لأحكام دار الإسلام، والآخرون ضالّون، يجب قتالُهُم قبل مقاتلة النظام الذي من المفروض أنهم قاموا لمعارضته. وفي الحقيقة فإنّ «فقه الأولويات» هذا، والذي ساد لسنواتٍ في صفوف المسلَّحين، لا ينمُّ عن جهلٍ بالدين وسُنَن الحياة الاجتماعية والأخلاقية وحسْب؛ بل هو أيضاً وبالدرجة الأولى وعي أداتي تُستخدمُ فيه بعضُ الفقهيات الموروثة من أجل السيطرة والنهب والاستغلال. ووعي كهذا يسهُلُ على الجهات المحلية والإقليمية والدولية استعمالُهُ لإعادة التوجيه من أجل الشرذمة، والوصول إلى عكس الأهداف التي يزعم هؤلاء أنهم قاموا لإحقاقها. وها هم في سوريا، يسيطرون على مناطق على الحدود مع الكيان المحتل، دون أن ينشب قتالٌ بينهم وبين جنوده أو مستوطنيه. وإلى ذلك هناك ظاهرةٌ أخرى تحدث الآن في شمال وشرق سوريا أيضاً. إذ يعبر مسلحون من بقايا «داعش» مناطق يسيطر عليها الروس والإيرانيون وميليشيات النظام دونما نزاعٍ أو اعتراض، ليقاتلوا جماعات أخرى بجوار إدلب بزعم الارتداد أو الاختلاف العقدي، وتحت سمع «الأعداء» وبصرهم!
وقد كشفت وثائق خلّفها أُسامة بن لادن وآخرون من تنظيمه، وتنظيم داعش الذي يتحطم الآن، وتبحث بقاياه عن مواطن جديدة للجوء والتخريب، أنّ الهمَّ كان ولا يزال مقاتلة «العدو القريب»، أي المجتمعات والدول العربية والإسلامية مثل السعودية ومصر، في تجاهلٍ أحياناً، وتعاوُنٍ أحياناً أخرى مع العدو البعيد، والذي قد لا يكون الولايات المتحدة مثلاً، بل إيران وإسرائيل.
إنّ لدينا مُشكلاتٍ كبرى بعضها يتعلق بدولنا الوطنية في أمنها واستقرارها وعيش مواطنيها، وبعضُها الآخَرُ بالقضايا والمشكلات الموروثة والناجمة عن السياسات الدولية والإقليمية تجاه أوطاننا وأمتنا، وأهمّها قضية احتلال فلسطين المستمر، ومسألة القدس العربية والإسلامية. وفي الحالتين، حالة الدول الوطنية القائمة، وحالة الموروث الاستعماري والاحتلالي؛ فإنّ هذه المجموعات المسلَّحة يظلّ همّها ضرب وحدة المجتمعات واستقرارها، ودولنا وأنظمتها، والعمل المباشر أو غير المباشر لصالح المحتلين من الإسرائيليين والإيرانيين وأنصارهم.
ولنتأمل عمل «القاعدة» ومن انتموا إلى «داعش» باليمن، فكلا الطرفين موجود إلى جانب الحوثيين في عدة محافظات في شبوة والبيضاء وغيرهما. لكنهم لا يزالون مصرين على القيام بعمليات إرهابية ضد الآمنين في عدن وحضرموت ومأرب، وأحيانا بالاشتراك فيما بينهم. الحوثيون يعاونهم الإيرانيون للاستيلاء على اليمن واستعادة حكم الإمامة، والانشقاقيون مصرُّون على تخريب المجتمعات والدول بعد أن عجزوا عن إقامة الدولة الموهومة. الإيرانيون والمتأيرنون يتحدثون عن فلسطين والقدس، ويعملون على احتلال بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء لاستعادة الإمبراطورية، إنما هذه المرة باسم آل البيت، ومسلحو «داعش» و«القاعدة» مصرون على قتلنا بعد أن اختفت من وعيهم وممارساتهم الأهداف والقضايا الأخرى، وصرنا نحن العدو الأصلي أو الأصيل.
وهكذا فهي أفعال إجراميةٌ أسطوريةٌ في هولها وآثارها على ديننا ودنيانا، ويشاركُ في ارتكابها انشقاقيون، يضعون على راياتهم وهم يعيثون في أرضنا فساداً: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل!