سعيد الكفراوي: الثقافة المصرية كالسياسة تعيش مشهداً مأزوماً

الاثنين 27 نوفمبر 2017 4:43 م
سعيد الكفراوي: الثقافة المصرية كالسياسة تعيش مشهداً مأزوماً
جنوب العرب - جنوب العرب : هشام أصلان
أنا ابن قرية قديمة، لم يعد موجودًا منها شيء إلا ما تحتفظ به الذاكرة، وأنا أستعين بتلك الذاكرة للكتابة عما فات، وهذه غايتي: استعادة زمن تلك الحوادث وناس تلك الأيام.

في شرفة تطلُّ على الهدوء الليلي المعتاد لضاحية "المقطم"، قرب وسط القاهرة، كانت الجلسة ساحرة مع القاص المصري سعيد الكفراوي.على المستوى الشخصي، يضمن وجود الكفراوي في هذه الحياة الحفاظ على ذكريات ممتدة. بتعبير أحد الأصدقاء، هو مثل رمانة ميزان في الحياة الثقافية. وجوده يضمن "الونَس"، ومجالسته تستعيد الأيام الحلوة، وإن لم يخلُ حديثه من شجن دائم، وحزن مقيم على أيام ذهبت.

الكفراوي أحد كتاب الستينيات البارزين، ذلك الجيل الأدبي الأكثر أثراً في الكتابة المصرية، بوصفه جيلاً حمل الهموم نفسها، فنياً وسياسياً، والإحباطات ذاتها. بعضهم استطاع إكمال مشوار الكتابة، وبعضهم غلّف نفسه بإحباطه وتوارى. كانوا يكتبون معاً، بينما يحتفظ كل منهم بخصوصيته.

على عكس أبناء جيله، الذين بدأ أغلبهم بكتابة القصة، ثم اتجه إلى كتابة الرواية، ظل هو في مكانه، مخلصاً للقصة القصيرة كوسيط سردي، فأصدر مجموعات: "مدينة الموت الجميل" و"ستر العورة" و"دوائر من حنين" و"كُشك الموسيقى"، وغيرها. فضلاً عن مختارات قصصية أخيراً، حملت عنوان إحدى قصصه: "زبيدة والوحش".

يقف سعيد الكفراوي في كتابته عند تلك المنطقة العجائبية من غرابة الواقع. بالأحرى الفانتازيا الآتية من الموروث الريفي المصري. المساءات في القرى، وبين المقابر وأصوات "العديد"، في كتابة تحاول، أغلب الوقت، استعادة شيء من تلك الطفولة الريفية في رؤيتها لهذا العالم بعين مختلفة.

*قلت إن جائزة الدولة التقديرية، ربما تكون تأخرت لأنك لم تنجر إلى مغريات زمن الرواية. كيف للرواية كجنس أدبي أن تظل في المكانة ذاتها­ بعد التغيرات التي طرأت في الواقع العربي، الذي بات يتحرك بسرعة البرق. ألا ترى أن الأجواء السريعة تلك أكثر ملاءمة لعودة القصة القصيرة واستعادتها لقارئ بات أكثر ميلًا لعدم الاستغراق في عالم بعينه لفترة طويلة؟

 -ثمة أسباب أخرى ذكرها يحزنني. على أية حال هم أخيرًا منحوني الجائزة، قلت مرة: أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي أبدًا. عزاء لآخر العمر، وتقدير ولو ليوم من كل عام. بالمناسبة، إياك أن تعتقد أنني لم أحاول كتابة رواية. أردت بعزم الغشيم كتابة رواية لم يكتبها أحد، وتهيأت للكتابة بهذا الإحساس غير المتواضع، فلم تكتب الرواية، رغم إنجازي عشرات الصفحات. علينا أن نزحف متواضعين حين نقترب من عتبة الكتابة. أستاذي الناقد إبراهيم فتحي كان يردد دائمًا "الكتابة أرزاق". بالفعل الكتابة عطية من مكان لا نعرفه، وعلينا أن نحسن وفادتها، فهي في كل أحوالها، مثلما قال جان جينيه: "أغامر بتفسير الكتابة.. هي الملاذ الأخير لمن خان". وأنا لم تؤثر في الصرخة المرعبة بأن "الزمن زمن الرواية"، لأنني في الأول والآخر من المؤمنين بأن الزمن زمن الفن الجيد الذي يعيش بعمر الزمن ذاته. هل انتهى أمر هؤلاء الذين كتبوا القصص ومضوا حيث وجه الليل؟ مثل أنطوان تشيخوف وفرانز كافكا وأرنست هيمنغواي ويوسف إدريس وزكريا تامر؟ هؤلاء يمكثون هنا ويستمرون ويحتلون ذاكرة الكتابة بفن يساعدنا كثيرًا على تحمل أهوال الحياة والموت. القصة القصيرة لم تختف أبدًا. هي موجودة وفاعلة. ربما غفل النقد عنها بسبب زحام سوق الرواية. وبسبب هجران كتّابها الكبار لها، حيث صاروا يكتبونها في الاستراحة بين كتابة رواية وأخرى. أنا هنا أجلس عند حافة الدنيا على جبل المقطم، أكتب ما تدفع به المخيلة عن تلك الجماعات التي تعرفها، هؤلاء الذين مضيت في حياتهم يومًا، وتعلمت منهم قص الحكايات. أحاول التعبير عن متغيرات الدنيا.

عشرون قمراً في حجر الغلام

*حدثنا عن كتابك الجديد "عشرون قمرًا في حجر الغلام"، وما أسباب تأخرك في نشره، أو الانتهاء منه؟
-عذّبني النحو في العنوان. ثقيل على النفس "عشرون قمرًا في حجر الغلام"، فانتهيت وعنونته بـ"قمر في حجر الغلام". وكتبت أسفل العنوان "نص عن صبي"، هل هو رواية، أم مجموعة قصص عن شخص من مولده لمماته؟ أنا لا أعرف. هي كتابة والسلام، كتابة عن الألم. عذبني هذا النص طويلًا، وأضناني مثل جرح.

هو عالم فطري يثير الدهشة والغرابة، ويثير أيضًا الحزن وانكسارات صبي. وذلك الصبي عبر صيرورته في الوجود يعود عشرات السنين، وعبر صبر ومثابرة في محاولة تشييد عالم مضى يتكئ عليه ليعيش سنواته في الحاضر، محاولًا عبر هذا العالم مواجهة موته في الهزيع الأخير من العمر. أجداد وأمهات وعذارى وأميرات، وحديقة تشبه الحياة يتحلق حولها العجائز، حديقة تشبه الفردوس. وأنا كلما خرجت من حارة قديمة لأخرى أقدم، وتصادفني بعض الوجوه التي عاشت آلاف السنين، وما زالت تحتفظ برمق أخير، أتأكد أن هذا الكتاب ربما يكون قادرًا على تشكيل معنىً ختامي لحياتي ككاتب، ولعله يقدر، أو يستطيع، أو ربما اقترب من ذلك. سأنتهي منه رغم "سدة النفس" إزاء ما يجري على أرض الوطن، مما يجعل الكتابة شديدة الصعوبة، وأنت ترى شعبًا يعيش إحباطاته يومًا بعد يوم.

"
أردت بعزم الغشيم كتابة رواية لم يكتبها أحد، وتهيأت للكتابة بهذا الإحساس غير المتواضع، فلم تكتب الرواية

"


* حكايتك السردية تميل بشكل كبير إلى الاتكاء على الغرابة الموجودة في واقع القرية المصرية، حيث الفانتازيا تتوفر في الموروث الشعبي. كيف ترى المساحة بين الواقع والخيال، بالأحرى إلى أي حد تلجأ للواقع أو التجربة الذاتية؟

 -تلك المنطقة الغامضة، المليئة بالأسرار والغموض والغرابة هنا، هي السيرة وعوالم الطفولة، شئت أو أبيت هناك محاولة لاستحضار زمن البراءة، وكلمات ألبير كامو حاضرة: "أي طفل لا يكون شيئاً بذاته". وأنت أبدًا لا تكتب الواقع، لكن تستعين به على الكتابة، أو كما قال إبراهيم أصلان: "نحن لا نكتب الدنيا، ولكن  نكتب بها". أنا ابن قرية قديمة، لم يعد موجودًا منها شيء إلا ما تحتفظ به الذاكرة، وأنا أستعين بتلك الذاكرة للكتابة عما فات. غايتي استعادة زمن تلك الحوادث وناس تلك الأيام. أنا وبعض من كتبوا عن القرية المصرية، مثل عبد الحكيم  قاسم وخيري شلبي ومحمد مستجاب، حاولنا استنطاق تلك الذاكرة، كمن يريد  الحفاظ عليها. ثمة صوت دائم أسمعه  فى الصحو والمنام، مثل صوت منشد في ذكر. صوت موغل في الزمن، لا يكفُّ عن ترديد ذلك النداء الخفي، وأنا لا أكف عن الإصغاء له، والغاية "تثبيت زمن يضيع". أنا أكتب عبر عالم مثل هذا، يزخر ببشر لا يعرفون الغناء، يعيشون بين مساجد وأضرحة وأزمنة لا تنقضي.

 كتب عن مجموعتي القصصية "دوائر من حنين" الناقد المصري صلاح فضل يقول: "هكذا تلتقي الأزمنة في المكان ذاته، وتفجر شخوص الماضي وكل طاقة الشجن في الحاضر، ويطل الألم الرهيف والألوان المتغيرة توقظ ما حفر من قبل في ذاكرة الإنسان عندما يتوهم أنه على حاله. عالم كاتب عاش عمره أسير المراسم والأعراس والمياتم ولحظات الحنان والبكاء على الراحلين وفك السحر والجنازات، وسمع حكايات عن وطن يموج بالرموز والمعاني، وطن الضد والخيال والصدف االعمياء".

مكان مثل هذا، وزمان مثل هذا، وبشر مثل هولاء، في سعيهم لعيش حياة الصدفة، يحتاجون لكي تكتب عنهم، غرابةً وفانتازيا وموروثًا شعبيًا بطقوسه وسحره إلى كتابة ولغة تعتمد التركيز والشطح وجدة الإيقاع، حيث يتجسد إيقاع النص من غرابة عالمه. أتذكر هنا مقولة خوليو كورتاثار: "لا وجود في الكتابة لمواضيع أحسن من أخرى، وإنما يتوقف نجاح الموضوع على طريقة تناوله من الكاتب". ولأن مواضيع ما أكتبه، تتميز بقدر غير قليل من الغرابة، ولأنها نتاج تجارب ومعايشة، لذا تحتاج لوسائط تبدو كأنها شقيقة للشعر. أما حكاية الواقع والخيال، فأنا كتبت بعض النصوص من واقعنا المعاش، حدثت تفاصيلها بالفعل، لكنها حين كتبت تجاوزت المتخيل، وجسدت عالمًا من دهشة لا تنسى. فعلى سبيل المثال قصة "شرف الدم" قصة عن ذلك الذي رأى أهله بعدما رحلوا وعرفهم، فكان الوحيد في دنيا الله الذي رأى أهله بعد موتهم. إنها تجربة تستمد توغلها من هذا العالم المزدحم بالأساطير، من جريمة الموت والحياة، من انشغال كاتب أمضى حياته مهمومًا بسؤال المصير.


*هناك من يرى أن الثقافة المصرية راكدة في مكانها منذ سنين. كيف ترى ذلك، وهل من سبيل للحل؟
-أعترف أن الثقافة المصرية، مثل السياسة المصرية، تعيش مشهدًا مأزومًا. مشهدًا يعيش الاحتمالات ولا يسعى لخلق رؤية تستعين بتصورات نخبة محترمة لتغير واقعها. هل انتهت الثقافة المصرية لترتيب شؤون البيت من خلال تلك القضايا الصغيرة؟ افتتاح معرض أو حضور ندوة أو جلسات لجان ومناقشة قضايا وهمية، أو الفرح بمهرجان يعقد فاعلياته بين الحين والحين؟ تعيش الثقافة المصرية بين ثقافات ونقائضها، وبين أزمنة التعصب الديني والوجود الثقيل لجماعات الإرهاب وحضور سلطة القمع والمصادرة. والمثقف المصري الآن، والعربي أيضًا، بات يحمل على كاهله غياب الإدارة في وجود مشروع تعليمي وتنويري،  وشروط حقيقية لدولة مدنية تضمن لكل فئات المجتمع حرية التعبير واحترام الدستور وتأكيد وجود قيم الدولة المدينة الحديثة. تأمّل ما يحدث في ثقافتنا الآن، أشياء تبدو لفرط هزالها قليلة القيمة، والأصوات التي كانت تقود الرأي إمّا رحلت بالموت أو صمتت بالقهر. انظر لمعارك المثقفين، وتأمّل ثقافة المهرجانات على الساحة العربية، وانتشار الفتاوى وحضور الماضي وقضايا المصادرة. ما هي مشاريع التقدم التي تنشغل بها عموم الثقافة العربية؟ حقيقة أنا لا أعرف.


* هل تحققت فكرة الجيل الأدبي في مصر بعد جيل الستينيات الذي تنتمي إليه؟
-كنا في قرانا في العام 1968، حين صدرت مجلة "غاليري 68". جئنا إلى القاهرة لنجلس حول نجيب محفوظ على مقهى ريش، وسط كوكبة من هذا الجيل، وكنا نحمل في وعينا حلم تغيير العالم. كانت هزيمة يونيو 67 قد حدثت. وكان بعض أفراد هذا الجيل قد تنبأوا بواقعها قبل أن تقع. كتب صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" ونشر أمل دنقل قصائد من ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وأنجز محمد عفيفي مطر قصائد ديوانه "النهر يلبس الأقنعة". كنا-الأغلبية- نكتب القصة القصيرة وننشرها في ذلك الوقت بجريدة "المساء"، عند راعي هذا الجيل، الأديب عبد الفتاح الجمل.

-كانت "غاليري 68" المنبر الذي واكب إبداع هذا الجيل، حيث قطعت على نفسها مهمة أن يكون لها شرف وضع لبنة متواضعة في صرح الوطن الاشتراكي الديمقراطي.

ولقد أوفى هذا الجيل بالعهد، بإبداعه الذي شارك فى خلق ذائقة جديدة واكبت رؤى الإبداع المصري الذي عاش حقب الزعماء وزمن المعتقلات والصلح مع العدو وصعود تيارات الإسلام السياسي ومشاريع الانفتاح الاقتصادي، ثم هجرة المصريين للخارج مثلما حدث في الزمن العثماني. وعبر ما حققته نصوص هذا الجيل، وما أبدعه من تخييل، سيظل علامة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية، وأخص بالذات القصة القصيرة، حيث لم يكن للرواية في ذلك الوقت مكان بين أبناء هذا الجيل. كلهم  كانوا يكتبون القصة وينشرونها فى المساء، وفي مجلة "المجلة" التي كان يتولاها الرائد العظيم يحيى حقي. كانت القصة في أوج ازدهارها، كما عرّفها في ذلك الحين الراحل الكريم إدوار الخراط: "سعيًا للمعرفة ودفاعًا عن أهوال الحياة والموت". جيل بسماته ومنجزه وكتابه وزمنه، عارض وسجن وعشق الوطن. الآن هناك شباب يختلف عنّا، كوّنته ثقافة الصورة، يستوحي عالمه من جحيم المتغيرات ويكتب المسكوت عنه كاشفًا عورة مجتمع  تنخره المفاسد، أفراد تكتب وحدها بفردانية تثير العجب. الإنتاج وفير إلى حد التخمة، والجيد قليل، وإن كان هناك عدد من الكتّاب يملكون شجاعة طرح السؤال، والخوض في المستحيل.

* رحل أغلب كتاب جيل الستينيات، وكانوا بالنسبة لك رفقة العمر. تحب أن تقول شيئًا؟
-لا أجد أبلغ من أبيات أمل دنقل، أحد فرسان هذا الجيل: "كل الأحبة يرتحلون/ فترحل شيئًا فشيئًا من العين/ ألفة هذا الوطن".

التعليقات

حوارات

الاثنين 27 نوفمبر 2017 4:43 م

قال وزير الطاقة المغربي السابق عزيز رباح، إن بلاده منفتحة على تنويع الشراكات مع جميع دول العالم في إطار "رابح - رابح"، والتأكيد على السيادة وعدم التدخ...

الاثنين 27 نوفمبر 2017 4:43 م

قال الدكتور إبراهيم عشماوي، مساعد أول وزير التموين والتجارة الداخلية المصري، إن مصر لديها الإمكانيات والاستعدادات والمناطق الاستراتيجية لاستضافة مركز...

الاثنين 27 نوفمبر 2017 4:43 م

مدير المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب: قيادات "داعش" وأخواتها خرجت من سراديب  أكد رئيس المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب والاستخبارات، جاسم محمد، أ...

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر