عندما تكون الصداقة أفظع من العداوة!

الجمعة 09 أغسطس 2019 5:19 م

القول السائر: «إذا كان هؤلاء أصدقاءك، فلستَ بحاجة إلى أعداء» ليس عربياً، لكنّ الرئيس حسني مبارك استشهد به عام 1993 عندما اشتغلت الوساطات لإعادة العلاقات بين إيران ومصر، وكان الرئيس الراحل حافظ الأسد شديد الحرص على ذلك؛ وبخاصة بعد وقف إطلاق النار بين العراق وإيران عام 1988. وقد بدا الأمر سهلاً مثل حذف اسم الشارع المسمَّى «خالد الإسلامبولي» قاتل الرئيس السادات في طهران، وتسليم بعض المطلوبين من النظام المصري من محيط قتلة السادات، أو من المتطرفين الآخرين الذي كانوا يغدون ويروحون بين مصر وأفغانستان عبر إيران. قال الرئيس الأسد: «الإيرانيون أصدقاء القضايا العربية وفي طليعتها قضية فلسطين، وانظر كيف فعلوا أو فعل أنصارهم بالجنود الأجانب في لبنان، وهم يدعمون مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فصدِّقني يا سيادة الرئيس إنهم أصدقاء، ولولا عدوان صدام عليهم لما رأينا منهم إلاَّ كل خير»! وفي رواية أحد الوسطاء، وكان كويتياً يعيش في جنيف، أنّ الرئيس مبارك ضحك وقال: «نعم، لقد كانت لدى صدام مبررات، لكنها ما كانت تكفي لشن تلك الحرب الضروس، أما أنّ إيران صديقة؛ فإنها معكم ربما بسبب العلاقة الطويلة، أما معنا فليست كذلك على الإطلاق؛ وعلى أي حال: إذا كان هؤلاء أصدقاءك، فلست بحاجة إلى أعداء يا سيادة الرئيس»!
عندما قامت الثورة الإيرانية باندفاعتها الهائلة، اختلف المراقبون إلى أين تتوجَّه، فكان هناك من كبار المفكرين الغربيين (مثل ميشال فوكو!) من قال إن الملالي سيتوجهون لتجديد الإسلام، وإحداث نهضة في العالم الإسلامي! بينما قال آخرون: إنّ الإيرانيين سيتوجهون شرقاً نحو الدول الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الشيوعية، بسبب العداء الشديد الذي أظهره الملالي ضد الأميركيين وضد الروس في الوقت نفسه. وانحسم الأمر لصالح التوجه الثالث: نحو العراق والشام ودول الخليج. وقد ظنَّ البعض أنّ ذلك حصل بسبب هجوم صدام على إيران. أما الصحيح الذي صار يقينياً الآن فإنّ ذلك التوجه كان بسبب الشحنة العاطفية المذهبية، والأحقاد التاريخية، وتأتي مسألة دعم العرب لصدام رابعاً أو خامساً. لقد أرادوا تحرير المزارات الشيعية، وأرادوا إسقاط الحكم العربي في كل مكان. ورغم الإعلان عن يوم القدس وفلسطين منذ عام 1980؛ فإنّ ذلك ما منعهم من التعاون مع إسرائيل عام 1985 عندما تضايقوا في الحرب مع صدام، وصولاً أخيراً إلى الافتخار باحتلال أربع عواصم عربية.
في كل مكان، ومع كل طرف، وبالداخل والخارج، تعامل الثوريون الإيرانيون الجدد ببراغماتية ومصلحية إلاّ مع العرب والأكراد. أما الأكراد فبسبب المسألة القومية، وميلهم للانفصال في تركيا والعراق وإيران وسوريا. وأما العرب فبسبب المسائل الدينية والقومية والتاريخية. والطريف أنه في السنوات الأولى للثورة صدرت عدة كتب ضد القومية العربية بالفارسية والعربية. وكنتُ أظن أنّ ذلك كان بسبب غزو صدام البعثي لإيران. ثم قال لي عدة أساتذة إيرانيين إنّ المسألة أعمق من ذلك، وتتعلق بالتاريخ والفتح العربي لإيران. وقد بدأوا منذ عام 1981 بإنشاء ميليشيات مسلحة في البلدان العربية سراً وعلناً، حسب وضع الدولة والحكومة القائمة في ذاك البلد. فحيث تكون الدعوى مقاومة العدو الصهيوني، تكون الميليشيات علنية في أهدافها على الأقل مثل «حزب الله» و«الجهاد الإسلامي». ولا أقصد هنا إلى تعديد التنظيمات التي أقامتها إيران في الثمانينات؛ بل منذ الثمانينات، وقد بدأتُ بدراسة الإسلام السياسي والآخر الجهادي على أثر قيام الثورة الإيرانية (1979)، ومقتل الرئيس السادات (1981) ولاحظتُ «فروق» التربية والتدريب للتنظيمات وبخاصة في لبنان، حيث كانت لدينا مصادر قريبة. وقد كانت التربية مذهبية بحتة، ومعادية للدول القائمة والنظام، والتركيز على أن الشيعة المضطهدين والمظلومين هم الأكثرية بين السكان في كل مكان. وحيث لا يمكن إسقاط النظام والحلول محله، فالانفصال خيارٌ حاسم، حفظاً لإيمان المرء. وعندما بدأت مجموعات الاغتيال للشيوعيين والقوميين في لبنان ممن أسسوا المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، قال لي أستاذٌ معنا بالجامعة اللبنانية ما كنتُ أعرف أنه من الحزب: «كيف يستقيم هذا؛ أن يقاتل الشيوعي لتحرير أرض المسلمين؟!»، وقلتُ له: تعرف أنني أدرّس باليمن أستاذاً زائراً بجامعة صنعاء، وقد قال عبد الله عزام في مسجد الجامعة، وهو آتٍ كما تعلم من «الجهاد» الأفغاني قبل أسابيع كلاماً يشبه كلامك عن الذين يناضلون في فلسطين في الانتفاضة (الأولى): ياسر عرفات وحواتمة وحبش هؤلاء شيوعيون وماسونيون... إلخ؛ ما بقي جهادٌ في سبيل الله إلاّ في أفغانستان! ثم ظهر التكفير (الوطني)، والتكفير (الديني) في مناسبتين: في حرب عام 2006 حين جرى تخوين الحكومة اللبنانية وتكفيرها، لا لشيء إلا لأنّ «الحسينيين» هم الذين ينفردون بالجهاد. ثم كان التكفير العلني عام 2012 - 2013 بالزعم من جانب نصر الله في خطابات متتالية، أن الشيعة إن لم ينهضوا للقتال في سوريا والعراق؛ فإنّ التكفيريين (نعم التكفيريين) سيغزون النجف وكربلاء وقم ومشهد... إلخ. ومن هم التكفيريون شديدو الهول؟ سكان بلدات القصير والقلمون والزبداني وداريا، والذين قُتلوا وهُجِّروا، وتسكن اليوم في منازلهم ومزارعهم الميليشيات الإيرانية والإيرانية الهوى ومن عدة بلدان!
آخر مرة زرتُ اليمن كانت عام 2004، وكانت مظاهرات واحتجاجات «الشباب المؤمن» (ما كانوا قد سَمَّوا أنفسهم: أنصار الله!) قد بدأت، ذهبت مع أحد تلامذتي إلى صعدة وضحيان لتأمل الموقف، وقد قال لي الشاب وقتها: لقد تسلّل إلينا المرض الإيراني التكفيري من إيران ومن لبنان، فحتى لو انتهى النفوذ الآيديولوجي الإيراني الآن، ماذا نفعل نحن مع جيلٍ كاملٍ باليمن، وماذا تفعلون أنتم بجيلين وأكثر في لبنان والعراق والبحرين؟! وعندما عدتُ إلى صنعاء أخبرتُ الدكتور عبد الكريم الإرياني بما شاهدتُ وبكلام الشاب؛ فقال لي: نحن من حول الرئيس صالح فريقان: فريق منه الرئيس صالح يعد هؤلاء شديدي الخطر، فهم يكرهون عروبتنا وعربيتنا وديننا ومستعدون للموت من أجل الإمام، ومن يستخلفُهُ منهم في اليمن! وفريق منه أنا أرى أنه بخليطٍ من الحزم والدهاء، كما اعتاد الرئيس صالح، يمكن الخروج من هذه الظاهرة! لقد أخطأ الرئيس صالح، رحمه الله، عندما تصرف بخلاف قناعاته.
يوم الأحد الماضي في 4-8-2019 أعلن الإيرانيون عن خطف سفينة جديدة رابعة أو خامسة، قالوا إنها أجنبية، وإنها تُهرّب النفط لبعض الدول العربية! وسمعتُ بالمناسبة مسؤولاً إيرانياً يقول: إيران صديقة الشعوب العربية، لكنّ الأميركيين يوهمون العرب أننا أعداؤهم! وإذا كان الإيرانيون أصدقاءنا كما يزعمون، فلسنا بحاجة بالفعل إلى المزيد من الأعداء!


التعليقات